(قنا24 – نقلا عن مجلة العربي)
العالَم، في هذه اللحظة، يتغيّر ويدخل مسارًا جديدًا؛ أفقًا مغايرًا، سيثير الكثير من الأسئلة والإشكالات المتعلّقة بالمجهول الذي ينتظر الإنسانية قاطبة. هذا المجهول الذي تأسس وفق نظام عالمي عولَم الشّرّ بأوجهه المتعدّدة، الشرّ الاقتصادي القائم على العرض والطلب ومن ثم على الربح، الشرّ الاجتماعي المبني على الفوارق الطبقية بين فئة تغتني من عرق الفقراء، وطبقة تموت قهرًا واستعباداً، بفعل الظلم الاجتماعي، الشرّ السياسيّ الذي برز في ما يشهده العالَم من حروب وخراب وتهجير وتغيير للخرائط، الشرّ الثقافي الذي يهيمن عليه الابتذال والضحالة والعصبية والصراعات الحضارية المجانية. هذه الشرور كانت وراء هذا الارتكاس الحضاري الذي تمرّ منه الحضارة الإنسانية، إضافة إلى التسابق نحو التسلّح وامتلاك قوة عسكرية واقتصادية والهيمنة التكنولوجية.
إن عالم اليوم يخوض حرب المعرفة بتجلياتها التقنية والتكنولوجية، ذلك أن العالَم يزداد بونا وشساعة بين دول تمتلك كل الإمكانات التكنولوجية وما يترتب عنها من تسلط وتحكّم، من قدرة على رسم خرائط جديدة حسب مصالح الدول الغربية، وما حدث بعد أحداث شتنبر من إعلان حرب ضد ما سمّوه إرهابًا وانجراف العديد من دول العالَم وراء ادّعاءات الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة «الإرهاب الأصولي»، يكشف بالواضح أنها حرب، في جوهرها، دينية حضارية. ودول تفتقر لأبسط شروط الحياة، فأحرى أن تكون لها القدرة على مناكفة هذه الدول العظمى.
إن الحرب المعلنة من قِبَل الغرب عن طريق التكنولوجيا يثبت حقيقة التغوّل الغربي في حياة الإنسان، فعن طريق الوسائط الاجتماعية من فيسبوك وتويتر وإنستغرام وغيرها تمكّنت هذه الدول من تحطيم جدار الحميميات والحياة الخاصة للناس، وتمت إزاحة كل ما يحافظ على إنسانية الإنسانية، وهذا أفضى إلى إشاعة ثقافة الابتذال والضحالة، فأصبح الفرد يعيش في عزلة قاتمة قاتلة ومسببة في أمراض نفسية واجتماعية، فساد بين الناس التباعد الاجتماعي داخل البيت وخارجه، فالكل منغمس في عوالمه الافتراضية والوهمية، والأكثر من ذلك أن هذه التكنولوجيا أسهمت في تكريس عقلية الاستهلاك والتواكل، والعمل على إشاعة حقّ الغش والوصولية وترسيخ الهاجس المادي كوسيلة لتحقيق السعادة المتوهّمة. كلّ هذا نتجت عنه مجتمعات لا تفكّر، لا تدبّر، لا تتدبّر، لا تنتج، لا تبادر، بقدر ما تنتظر سماء الافتراضي أن يمطر عليها ذهب الغنى والثراء.
إنها ثقافة الربح السعير والأكلات السريعة والظواهر السريعة، والفنون السريعة والنقد المتسرع وغيرها من الأنشطة الفكرية التي كان الانشغال بها يتطلب عقودًا من الزمن، هو زمن الاستسهال، استسهال المعرفة، استسهال الإنتاج المعقلن، استسهال الإبداع، مما نجم عنه اختلالات في منظومة العالَم، قِيمِيًا وإنسانيًا، ولا غرابة في ذلك لأن المعرفة التكنولوجية أعلنت الحرب على العقل الذي كان الفضل فيها لفلسفة الأنوار في القرن التاسع عشر، وما تلاه من حرية وحقوق وظهور مجتمع مدني، ومؤسسات سياسية وتيارات إبداعية، هذه التجليات للعقلانية كان وراءها مرجعيات ثقافية وفكرية وحضارية ممتدة في الماضي ومرتبطة بالحاضر وحاضنة للمستقبل، لكن الإرث العقلاني يتعرّض لأبشع حرب ضروس جيشه المعرفة التكنولوجية مدعّمة بلوبيات عالَمية هاجسها الأول والأخير الربح دون غيره، وما استنزافها لمقدرات الطبيعة وما نجم عنه من كوارث بيئية ستؤدّي الإنسانية ضرائب ثقيلة والأكثر من ذلك تهدّد وجودها.