القراءة الصوتية
في تاريخ الشعوب، هناك لحظاتٌ خالدة تبقى شاهدة على عظمة النضال الإنساني من أجل الحرية والسيادة. ومن بين هذه اللحظات التاريخية، يتألق يوم الثلاثين من نوفمبر 1967 كحدث مفصلي في تاريخ الجنوب. إنه اليوم الذي أنهى فيه أبناء الجنوب أطول استعمار عرفه العصر الحديث، حيث غادرت آخر القوات البريطانية أرض عدن، ليُرفع علم الحرية عالياً ويبدأ عهد جديد من الاستقلال والسيادة الوطنية.
بداية الاحتلال: أطماعه وأول خطوات المقاومة
لم يكن الاحتلال البريطاني للجنوب مجرد حادثة طارئة، بل جاء في إطار الأطماع الاستعمارية الكبرى التي سعت للسيطرة على الطرق التجارية البحرية. في 19 يناير 1839، اقتحمت القوات البريطانية ميناء عدن بقيادة القبطان هنس، لتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة لشعب الجنوب. ومع ذلك، لم يكن الجنوب يوماً أرضاً خاملة. فمنذ اللحظات الأولى، واجه الجنوبيون الاستعمار، ولو بقدرات بسيطة، عبر الصيادين والمقاومين الأوائل الذين دافعوا عن قلعة صيرة بأسلحتهم البدائية.
على مدى عقود، حاول البريطانيون فرض سيطرتهم عبر بناء التحصينات العسكرية وإقامة الإدارات الاستعمارية، لكن مقاومة أبناء الجنوب كانت تزداد اشتعالاً مع كل محاولة لترسيخ الاحتلال. الانتفاضات الشعبية، التي انطلقت في مختلف مناطق الجنوب، أثبتت أن الشعب لا يرضى بالذل مهما بلغت قوة المحتل.
انطلاق الشرارة في جبال ردفان
جاءت ثورة 14 أكتوبر 1963 كإعلانٍ صريح بأن زمن الاحتلال قد انتهى.
انطلقت الشرارة الأولى من جبال ردفان بقيادة الشهيد غالب بن راجح لبوزة وأبطال الجبهة القومية لتحرير الجنوب، الذين أدركوا أن النضال المسلح هو السبيل الوحيد لإنهاء الاحتلال. ومن هناك، اشتعلت الثورة في كل ركن من الجنوب.
أربع سنوات من الكفاح المسلح شهدت تضحيات عظيمة قدمها شعب الجنوب. كانت هذه المرحلة من النضال فريدة لأنها لم تكن مقتصرة على العمل العسكري وحده، بل كانت ملحمة وطنية شاملة شارك فيها الجميع. من الطلاب الذين نظموا المظاهرات، إلى النساء اللواتي قدمن الدعم اللوجستي وشاركن في المقاومة، وصولاً إلى العمال الذين أضربوا في الموانئ والمصانع. هذه الوحدة جعلت المحتل البريطاني يدرك أن استمراره في هذه الأرض بات مستحيلاً.
التضحيات الكبرى: الثمن الذي دفعه الجنوب
الثورة الجنوبية لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت ملحمة وطنية شاملة جسدت أسمى معاني التضحية. الآلاف من الشهداء والمصابين، من الرجال والنساء، قدموا أرواحهم دفاعاً عن أرضهم وهويتهم.
أسماء خالدة مثل الشهيد غالب بن راجح لبوزة وأبطال آخرين من أبناء ردفان وشبوة وأبين وحضرموت، رسموا بدمائهم ملامح النصر القادم.
من جبال ردفان الشامخة التي أصبحت أيقونة للصمود، إلى سهول أبين وشبوة التي شهدت ملاحم بطولية، قدم أبناء الجنوب تضحيات جساماً لتحقيق حلم الاستقلال. وفي 30 نوفمبر 1967، تحقق الحلم وأصبح الجنوب دولة مستقلة بإرادة الشعب وتضحياته.
فرحة النصر: يومٌ لا ينسى
حين ارتفع علم الجنوب لأول مرة في سماء عدن، كانت اللحظة تاريخية بكل المقاييس. اختلطت دموع الفرح بالزغاريد التي صدحت في كل زاوية. خرج الناس من كل بيت وشارع للاحتفال بالنصر العظيم. من حضرموت إلى الضالع، ومن لحج إلى المهرة، عمّت الأفراح.
لم تكن تلك الاحتفالات مجرد مظاهر عابرة، بل كانت تعبيراً صادقاً عن استعادة الكرامة التي سُلبت لعقود طويلة. يوم الثلاثين من نوفمبر لم يكن نهاية للاستعمار فقط، بل بداية لحقبة جديدة من الأمل والطموح في بناء الدولة التي حلم بها الأجداد.
دروس التاريخ وصناعة المستقبل
الدرس الأعظم الذي قدمه الثلاثين من نوفمبر هو أن الوحدة كانت السلاح الأقوى في مواجهة الاستعمار.
أبناء الجنوب، رغم تنوع قبائلهم وجغرافيا مناطقهم، تركوا خلافاتهم جانباً وركزوا على الهدف الأسمى: التحرير.
وهذا الدرس يبقى صالحاً في كل زمان ومكان، خاصة في مواجهة تحديات العصر الحديث.
واليوم، ونحن نعيش الذكرى الـ57 لهذه المناسبة العظيمة، يقف الجنوب أمام تحديات جديدة لا تقل خطورة عن الاحتلال البريطاني. من الصراعات السياسية الداخلية إلى التدخلات الخارجية التي تسعى لزعزعة الاستقرار، يبقى الحل في استلهام روح الثلاثين من نوفمبر، تلك الروح التي جمعت الشعب حول هدف مشترك ووحدت كلمته.
الخاتمة: عهد لا ينتهي
الثلاثين من نوفمبر ليس مجرد ذكرى للاحتفال، بل هو محطة للتأمل والعمل. إنه تذكير دائم بأن شعب الجنوب قادر على تجاوز المحن إذا توحدت إرادته ورؤاه.
الأمانة التي حملها أجدادنا يوم حرروا هذه الأرض تنتقل إلينا اليوم لنحافظ عليها ونبني عليها مستقبلنا. الجنوب، بشعبه الأبي وتاريخه العريق، يستحق أن يكون نموذجاً للسيادة والحرية.
الثلاثين من نوفمبر سيبقى رمزاً خالداً نستلهم منه القوة والعزيمة، لنكمل مسيرة البناء ونستعيد أمجاد هذا الوطن. وكما كتب التاريخ أن الجنوب لا يُقهر، علينا أن نكتب بأفعالنا أن المستقبل لا حدود له لشعب لا يعرف الانكسار.
محمد عبدالله المارم