حزب الله، الذي شكّل منذ تأسيسه قوة مقاومة مؤثرة ومتماسكة في وجه إسرائيل، حافظ على بنيته الأمنية والعسكرية لعقود طويلة. وحتى بعد عمليات الاغتيالات التي استهدفت قادته، ظل الحزب يشكل قوة لا يُستهان بها، حيث توّجت هذه القوة بانتصاره في حرب تموز 2006. عزز هذا الانتصار مكانة حزب الله العسكرية والسياسية، مما مكنه من فرض نفسه كلاعب أساسي في مواجهة إسرائيل بالمنطقة. وكان نجاحه ناتجًا عن تركيزه على تحرير الأراضي اللبنانية وحصر نشاطه داخل لبنان، مع الحفاظ على علاقات خارجية تتعلق أساسًا بالدعم اللوجستي والعسكري، بما في ذلك علاقته بإيران.
ومع ذلك، بدأت التغيرات تظهر بعد حرب تموز، حيث يبدو أن شعور الغرور قد تسلل إلى قيادة الحزب، مما أدى إلى انحرافه عن مساره الرئيسي وتورطه في صراعات إقليمية أوسع تحت راية “ولاية الفقيه” وخدمة المشروع الفارسي في العالم العربي. أدى تورطه في الشؤون الداخلية للدول العربية إلى إدخال الحزب في متاهات كبيرة، حيث شارك في حروب خارج لبنان مثل سوريا، العراق، واليمن. هذا التدخل أثّر بشكل كبير على صورته محليًا وإقليميًا، رغم أن البعض برر مشاركته في الحرب السورية لأهميتها الاستراتيجية للمقاومة في لبنان. إلا أن مشاركته في النزاعات الأخرى ساهمت في تقويض شعبيته داخل لبنان وفي المحيط العربي، وزادت التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها.
ومع توسع الحزب الإقليمي، أصبحت بنيته الأمنية أكثر عرضة للاختراقات الاستخباراتية، خاصة من إسرائيل، التي استغلت ذلك لتوجيه ضربات أكثر دقة وفعالية، كما حدث خلال عشرة أيام من اشتعال الأوضاع في جنوب لبنان. وبالتزامن مع فقدان الحزب لشعبيته منذ 2011، حيث واجه ضغوطات متزايدة من الداخل، بما في ذلك من بيئته الشيعية، التي بدأت تشهد صحوة نتيجة لتداعيات تدخله في الشؤون العربية، وكذا فقدانه التأييد الشعبي للشارع العربي الذي لازال يرى في مقاومة إسرائيل عسكريا هو الحل الأمثل للقضية الفلسطينية .
في المقابل، ومقارنة مع حركة حماس، التي تسيطر على مساحة صغيرة في قطاع غزة وتواجه حصارا مدمرا، أظهرت تماسكا أكبر في مواجهة العدوان الإسرائيلي. فقد حافظت على بنيتها القيادية وحمت نفسها من الضربات الإسرائيلية الكبيرة، التي عادة ما تركز على قياداتها ولم تتحقق بالشكل المطلوب إلا خارج غزة، مثل اغتيال إسماعيل هنية والمبحوح وغيرها من قيادة الحركة المستهدفة من المخابرات الصهيونية ،حيث يعود هذا التماسك إلى تركيز حماس على الداخل الفلسطيني، مع الإحتفاظ بتواجد خارجي يقتصر على التنسيق للدعم والعملية الدبلوماسية مع المهتمين في الشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، مما قلل من خسائرها مقارنة بحزب الله. كما أن القرار السياسي والعسكري لحماس أصبح يدار من داخل فلسطين، خاصة بعد مراجعة موقفها من التمرد في سوريا عام 2011.
لهذا، من المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تغييرات كبيرة في استراتيجيات حركات المقاومة في لبنان وغزة. ربما يعيد حزب الله النظر في تدخله الإقليمي ويبدأ في تقليص نفوذه خارج لبنان. وفي حال كابر وأستمر في هذه التدخلات، فقد يؤدي ذلك إلى تفكك الحزب وفقدانه مكانته العسكرية والشعبية داخليا وإقليميا، وأعتقد أن إيران بدورها، بعد مقتل رئيسها السابق في حادثة تحكم طائرته ، أدركت التغيرات وبدأت تفقد الأمل في الأدوات السابقة مثل حزب الله في لبنان وسوريا وحركات التحرر في فلسطين. لكنها بالمقابل، زادت دعمها للحوثيين وذلك بهدف ابتزاز دول الخليج وأمريكا للتوصل إلى تفاهمات مع الغرب للحفاظ على مصالحها ، بعدها ستتخلى عن الجماعة الحوثية وتتركها في مواجهة مصيرها مع الخصوم في الإقليم والداخل اليمني.وكما يبدو أن إيران بدأت تستشعر أن استمرار النهج القديم واللعب بالنار خارج حدودها، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى صراع مباشر مع الغرب وإسرائيل، وهو ما لا ترضاه القيادة الإيرانية و ما تتجنبه في مثل الظروف بالغة الخطورة.
ناصر المشارع