قبل أكثر من ستة عقود، شهد اليمن حدثًا مفصليًا تمثل في قيام “#26سبتمبر 1962″، التي قادت للإطاحة بنظام الإمامة السلالي بعد قرون من السيطرة والهيمنة على الشمال.
هل كان ما حدث ثورة حقيقية بالمعنى العميق للكلمة؟ أم أنه كان مجرد انقلاب سرعان ما تحول إلى ثورة بفعل تطور الأوضاع والظروف؟
أن نقول “ثورة” أم “انقلابًا”؟ ليس تجنيًا على الإطلاق، بل تساؤل في محله؛ لأجل الفهم.
الانقلاب يعني استيلاء مجموعة صغيرة على السلطة، غالبًا من قبل عسكريين، دون دعم شعبي واسع، في حين أن الثورة هي حركة شعبية تؤدي إلى تغيير جذري وشامل في النظام السياسي، الاجتماعي، والاقتصادي.
إذا نظرنا إلى ما حدث في #26_سبتمبر 1962، نجد أنه بدأ كحركة انقلابية قادها مجموعة من الضباط للإطاحة بالإمامة، إلا أن هذا الانقلاب ما لبث أن أخذ طابعًا ثوريًا بعد انخراط الشعب وتوسيع الأهداف لتشمل مطالب التغيير الجذري في البلاد.
من المؤكد أن الأحداث أسهمت في تغيير النظام السياسي من ملكية إلى جمهورية، لكن يجب أن نسأل:
ما هو التغيير الجذري الذي حصل في حياة الناس؟
هل تم التخلص من الفقر، الأمية، وانعدام العدالة؟ أم أن الأمور ظلت تراوح مكانها مع تغيير وجوه الحاكمين فقط (الذين مع ذلك لم يتم تغييرهم إلا بالانقلاب أو الاغتيال)؟
بالنسبة للمواطن اليمني العادي، التغيير الذي كانت سبتمبر تعد به لم يتحقق بشكل كامل.
لقد أُحرز بعض التقدم في مجالات التعليم والبنية التحتية، ولكن بالنظر إلى الواقع الاقتصادي والثقافي، نجد أن الثورة لم تحقق تغييرات جذرية على مستوى المجتمع. (قياسًا بالتخلف والاستبداد الإمامي، فما حدث بعد سبتمبر كان مهمًا، لكنه لم يكتمل.)
لا تزال القوى التقليدية من نخب عسكرية وقبلية مسيطرة على الحياة السياسية، ولا تزال الهياكل الاجتماعية القديمة قائمة بشكل أو بآخر.
فالفكرة الأساسية للثورة هي كسر هذه الهياكل وإيجاد مجتمع عادل وديمقراطي، وهو ما لم يحدث بالشكل المطلوب، (ما جعل البلاد تعيش عقودًا من النظام الجمهوري المفرغ في الحقيقة من تحقيق أهداف سبتمبر “الثورة”).
كانت لـ26 سبتمبر أهدافٌ واضحة تمثل الأمل في مستقبل مشرق لليمن، على الأقل فيما يخص “التحرر من الاستبداد، وإقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق بين الطبقات، وبناء جيش وطني، ورفع مستوى الشعب في كافة الأصعدة، وإنشاء مجتمع ديمقراطي”.
ما هو تقييمنا اليوم – قبل أن تأتي جائحة ونكبة الإمامة الجديدة الأسوأ من سابقتها – لتحقيق هذه الأهداف في الواقع الثوري الجديد، حينها وما بعده؟
إذا ما نظرنا إلى ما تحقق فعليًا، نجد أن هذه الأهداف، وإن كانت قد أحرزت تقدمًا في بعض النواحي، إلا أنها لم تتحقق على النحو الذي نستطيع القول معه أن ثورة قد حدثت (وقد تكون في مسار الثورة التي لا بد أن تُستكمل في محطات قادمة).
فما زالت الفوارق الطبقية قائمة، وما زالت العدالة الاجتماعية حلمًا بعيد المنال، وما زال مستوى معيشة الشعب اليمني مترديًا حتى ما قبل الأحداث الأخيرة، (ولا يخفى عليكم كذلك تقييمنا المحق لما جرى في 94 وما تلاه.)
الثورة كانت بداية جيدة، لكنها لم تكن كافية لتحقيق التغيير الشامل الذي كان يحلم به اليمنيون.
وعندما نتحدث عن حقبة الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح، نجد أن المناسبة تحولت إلى مجرد رمز – مفرغًا أكثر – يحتفل به سنويًا، دون أن تكون لها الروح السبتمبرية على الأرض.
في تلك المرحلة، وكما تعلمون، ابتعد الخطاب الرسمي عن الروح الثورية الحقيقية وأصبح التركيز على الحفاظ على النظام أكثر من السعي لتحقيق التغيير الذي كان يُنشد من الثورة. ثمة ما يطفو على السطح من “إنجازات فخامة الأخ الزعيم” كحاكم فرد وكـ”ضمن الأوليجارشيا” أيضًا، فيما تعرفون إلى أين كان يتجه جوهر المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لم يأتِ صالح إلا بعد انقلابَي 67 و74 واغتيالَي 77 و78، واستمر يحكم الشمال ثم اليمن 33 عامًا!
وتأتي الاحتفالات العارمة حاليًا بمناسبة 26 سبتمبر كردة فعل شعبية جارفة ضد عودة مشروع الإمامة الممثل بـ”أنصار الشيطان”**.
وعظيم أن يذهب الحشد الجماهيري و”الجمهوري” بكل مداه في هذه المناسبة النقيضة تمامًا – والتي يجب أن تكون أكثر من ذلك – ضد “المشروع السلالي”، ضمن الطريق لاستعادة الدولة “الجمهورية”.
لكن المسألة إذا ما توقفت عند هذا الحد من إفراغ العاطفة المشحونة، كانت في مسار معاكس تمامًا لمصالح الشعب الحقيقية الذي من الواجب أمام كل قواه الوطنية أن تفعل أكثر بكثير من مجرد احتفال.
ولا قيمة لـ”الاحتفال” أبدًا أن يكون مجرد “احتفال”.
ولا يعفينا هذا مع ذلك من تقديم النقد للموقف الشعبي ذاته الذي عادة ما يجيد الصخب العاطفي في الذهاب إلى أبعد مدى، ثم يغط في نومه العميق كالعادة.
هل يصبح لدينا نوع من “التصنيم” حول 26 سبتمبر؟
هذا مرفوض.
لا بد أن نرفض كل تصنيم وصنم.
النقد ليس خيانة، ولا جريمة.
وسبتمبر ليست رمزًا مقدسًا، بل أحرى ما تتطلب التقييم المستمر والتطوير لتحقيق أهدافها.
والنقد هو السبيل الوحيد للحفاظ على جوهر سبتمبر وأكتوبر (وأحقية وأصالة قضايانا العادلة)، وإلا فإننا نخاطر بأن تتحول كل المعاني إلى مجرد مناسبة احتفالية دون روح.
أؤكد أن 26 سبتمبر كانت بلا شك خطوة عظيمة في تاريخ اليمن، وضربة قاصمة لنظام استبدادي أبقى البلاد في تخلفٍ دامٍ لقرون. لكنها لم تكن كافية لإحداث التغيير الجذري الذي تتطلبه ثورة حقيقية.
لا تزال هناك حاجة ماسة لمراجعة المسار الممتد لأكثر من نصف قرن، وتقييم ما تحقق وما لم يتحقق، لنتمكن من مواصلة الفعل الثوري بشكل حقيقي ومستمر.
الثورة ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي حركة مستمرة نحو تحقيق العدالة والحرية والمساواة في كل جوانب الحياة.
نشوان العثماني